سورة إبراهيم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قلت: {مثل}: مبتدأ، والخبر محذوف عند سيبويه، أي: فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء: الخبر ما بعده، وهو جملة: {أعمالهم كرمادٍ}، أو {أعمالهم}: بدل، والخبر: {كرماد}، وعلى قول سيبويه تكون جملة: {أعمالهم}: مستأنفة لبيان مثلهم.
يقول الحق جل جلاله: {مَّثلُ} أعمال {الذين كفروا بربهم}؛ في عدم الانتفاع بها وذهابها: {كرمادٍ اشتدت به الريحُ} في الهوى بسرعة {في يومٍ عاصفٍ}: شديد ريحه. والعصْف: اشتداد الريح. وصف به زمانه؛ للمبالغة، كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم. شبه صنائعهم؛ من الصدقة، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وعتق الرقاب، ونحو ذلك من مكارمهم؛ في حبوطها لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله، والتوجه بها إليه بغبار طارت به الريح العاصفة {في يوم عاصفٍ لا يقْدرونَ} يوم القيامة {مما كسبوا} من أعمالهم {على شيءٍ} من الانتفاع بها؛ لحبوطها، وتلاشيها، فلا يقدرون منها على شيء، ولا يجدون ثوابها، وحيل بينهم وبين النفع، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه، فهو كما قيل: فذلكة التمثيل. {ذلك}؛ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون، {هو الضلال البعيد} أي: هو الغاية في البُعد عن طريق الحق.
الإشارة: العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص في أوله، والإسرار في آخرِه، والتبري فيه من الحول والقوة، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الإبقَاءَ عَلَى العمل أشَدُّ مِنَ العمل، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ العمل فيُكتب له عَمَلٌ صالحٌ، معمول به في السر، يضعِّف أجره بسبعين ضِعفاً، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُعْلنه، فيكتب علانيته، ويمحى تضعيف أجره كله، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُحب أن يُحمد عليه، فيُمحى من العلانية، ويكتب رياء، فاتقى الله امرؤ صان دينه، وإن الرياء شرك» وراه البيهقي.
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب، كعبادة التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، أو نية صالحة وهدى صالح، أو زهد في القلب، وورع وصبر، وشكر وحلم، وغير ذلك من أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، بل يتولى جزاءه أكرمُ الأكرمين. ولذلك قيل: ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام: «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» ولهذا أمر به أي: بالتفكير.


يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ} يا محمد، أو أيها السامع {أن الله خلق السماوات والأرض بالحق}؛ لتدل على الحق، أو بالوجه الذي يحقَّ ان تُخلق لأجله، وهو التعريف بخالقها، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام، ولذلك قال: {إن يشأ يُذهبكم ويأت بخَلْقٍ جديدٍ}، أي: إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ من قدر على إيجاد صورهم، وما تتوقف عليه مادتهم، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر؛ {وما ذلك على الله بعزيز} أي: بمتعذر، أو ممتنع؛ لأن قدرته عامة التعلق، لا تختص بمقدور دون آخر، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد؛ رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء، الذي أشار إليه بقوله: {وبرزوا لله...} إلخ.
الإشارة: ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح، لشهود الحق في مقام التعريف، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر، حتى تترقى إلى عالم الأرواح، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية، التي يطلع عليها العارفون بالله، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام، كُوشفوا بأسرار الذات العلية، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل، فلا يغيبون عن الله ساعة، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء. وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لي ثلاثون سنة، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً: لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه: مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه... إلخ كلامه. نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا، وفي قوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم...} الآية، إشارة إلى هذا، أي: إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم، ويأت بخلق جديد، تُشاهدون به أسرار ربكم، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسي رضي الله عنه: حقيقة الفناء محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال. اهـ.


قلت: {تَبعاً}: جمع تابع، أو مصدر نُعت به؛ للمبالغة على حذف مضاف، أي: كنا لكم ذا تبع، و{من عذاب الله من شيء}: من، الأولى؛ لبيان، والثانية: زائدة، هذا المختار. وعليه الصلاة والسلام و{محيص}: إما مصدر، أو اسم مكان.
يقول الحق جل جلاله: {وبرزوا لله} أي: لأمر الله {جميعاً}، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاةً عراةً، لفصل القضاء، أو: برزوا لله على ظنهم؛ فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية، ويظنون أنها تخفى على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه. فيقول حينئذٍ {الضعفاءُ} وهم: الأتباع، لضعف رأيهم عندهم، {للذين استكبروا} وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم: {إنا كنا لكم تَبَعاً} في الكفر، وتكذيب الرسل، والإعراض عن نصحهم، {فهل أنتم مُغْنون عنا من عذابِ الله من شيء} أي: فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟.
{قالوا}، أي: رؤساؤهم، في جوابهم واعتذارهم: {لو هدانا الله لهديناكم} أي: لو هدانا الله للإيمان، ووفقنا إليه لهديناكم ولكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص، {سواءٌ علينا أجزِعْنَا أمْ صَبَرنا}، أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، {ما لنا من محيص}: من مهرب ومنجى، ويحتمل أن يكون قوله: {سواءٌ علينا...} إلخ، من كلام الفريقين معاً، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثم يقولون: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}. نسأل الله العصمة بمنَّه وكرمه.
الإشارة: إذا ترقى العارفون، ومن تعلق بهم، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وبرزوا لشهود الله في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وتنزهوا في حضرة الأسرار، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار، بقي ضعفاء اليقين؛ الذين تعوقوا عن صُحبتهم، في غم الحجاب، وتعب الحس والخواطر، مسجونين في سجن الأكوان، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه: إنا كنا لكم تبعاً، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب، وسقوط الدرجة؟ فيقولون: لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا، وفزعوا على ما فاتهم، فلا ينفعهم ذلك؛ فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسلفين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم. وسيأتي إن شاء الله الحديث عند قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7